- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (023) سورة المؤمنون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الأخوة المؤمنون، فالآية التاسعة والتِّسْعون، وما بعدها من سورة المؤمنون وهي قوله تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
أيها الأخوة الكرام، أحَدُ تعريفات العَقْل، أنّ الإنسان العاقِل أو الذي يسْتَخْدِمُ عقْلَهُ ؛ هو الذي لا ينْدَم، لأنَّ الإنسان الذي ينْدَم معناه أنَّهُ عطَّل عقْله، ولم يسْتفِد منه، فإذا توهَّم الإنسان أنَّه قد أفْلَحَ، ونجَحَ، وربِحَ وتفوَّق، ثمَّ وصَلَ إلى هذا اليوم، وقال:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾
إذًا لم يكنْ عاقِلاً لذلك ليس كلّ ذَكِيٍّ عاقلاً، فالذَّكاء شيء، والعقْل شيء آخر فالذَّكاء مُتَعَلِّق بالجُزْئيَّات، وفيما أنت فيه، والعَقْل مُتَعَلِّق في الكُلِيَّات فَلِمُجَرَّد أن تنْدم فأنت لسْتَ عاقِلاً، أيْ أنَّ هذا الجِهاز الذي أوْدَعَهُ الله فيك لم تسْتَخْدِمْهُ، قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((الليل والنهار يُقَرِّبان كلّ بعيد و يُبليانِ كلَّ جديد))
و كلُّ مُتوقَّع آتٍ و كلُّ آتِ قريب، والإنسانُ يظنُّ أن الأمدَ طويلٌ و فجأةً هو على مشارف الدار الآخرة، فلذلك العقلُ كلُّ العقلِ أن نعمل لهذه الساعةِ التي لا بدَّ منها، قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)﴾
الآن هذا الذي سيقولُه هذا النادِمُ هو أثمَنُ ما في الدنيا، لعلِّي أعمل صالحًا فالإنسان لا يطلب الرُّجوع من أجل أن ينهي بِناءَ بيْتِهِ ! فهذا الكلام لا يقوله أحد، ولكن يقول:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾
فالدنيا كلَّها مِن أجل أن تعملَ عملاً صالِحًا يُؤَهِّلُكَ للجنَّة التي وَعَدَك الله بها، وكلمة عمل صالح ؛ أيْ عمل يصْلُحُ للعَرْض على الله، أي عملٌ صالِحٌ، وعمل مُتْقَن، وعمل وِفْق السنَّة، مُطابق للمنْهَج، والإمام الفُضَيْل يقول: إنّ الله عز وجل لا يقْبَلُ مِن الأعمال إلا ما كان خالصًا وصَوابًا ؛ فالخالِصُ ما ابْتُغيَ به وجْه الله، والصواب ما وافَقَ السنَّة فإذا غاصَ الإنسان في البحر، واللآلئ بين يدَيْه ؛ أخذ الأصْداف، فإذا أعْلَمهُ رُفقاؤُهُ يقول: لعلَّي كنتُ آخُذُ اللؤلؤ، وإذا الإنسان ذهَب لِبَلَد لِيأخذ شَهادة عُليا وعاد بخفيّ حُنَين، يقول: يا ليتني نشلْتُ هذه الشَّهادة ولكان شأني في المُجْتمَع شأنٌ آخر، فالشيء الذي تنْدَمُهُ عليه هو أثْمَن شيءٍ على الإطلاق، وأثْمَنُ شيءٍ في الدنيا على الإطلاق هو العمل الصالح قال تعالى:
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32)﴾
وقال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾
بل إنَّ سِرَّ مجيئِكَ إلى الدنيا، وعِلَّة وُجودك فيها العمل الصالح، فالدنيا مزْرعة الآخرة، وتهيئَةٌ وإعداد للآخرة، وإنَّها حياةٌ دُنيا لِتَكون سبب حياة عُليا.
قال تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
فعذاب البرْزخ أُشير فيه إلى هذه الآية، قال تعالى:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)﴾
فهُم يُعرضون على النار كلّ يوم غُدوًّا وعَشِيًّا، مِن سِتَّة آلاف عام إلى يوم القيامة، وهذا عذاب البرْزخ، والقبر إمَّا روْضة مِن رياض الجنَّة، أو حُفْرة مِن حُفر النِّيران.
قال تعالى:
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)﴾
قد تقَعُ عَيْن الابن على أُمِّه، وقد تقعُ عين الأمّ على ابنها، فتقول يا ولدي كان لك صَدْري سِقاءً، وبطْني وِعاءً، وحِجْري وِطاءً، فهل مِن عَمَلٍ يعود عليَّ خيرهُ اليوم ؟! فيقول: ليْتني أسْتطيع ذلك يا أُمَّاه ! إنَّما أشْكو مِمَّا أنت منه تشكين !! قال تعالى:
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)﴾
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ))
قال تعالى:
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)﴾
موازين أعماله الصالحة، لذا قال الإمام عليّ رضي الله عنه: الغِنَا والفقْر بعض العرْض على الله، فالغِنَى والفقْر لا يوصَفُ بهما الإنسان إلا بعد العرْض على الله، وهذا سيِّدُنا موسى عليه الصلاة والسلام قال بعد أن سقى الفتاتين بِنْتَي سيِّدنا شُعيب، قال تعالى:
﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)﴾
مُمْكن أن تجد شَخْصًا لا يمْلِكُ من الدنيا إلا القليل وهو أغنى الأغنياء بِأعمالِهِ الصالحَة، وقد تجد الآخر له سبعمائة مليون !! قال تعالى:
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)﴾
قد يخْسر الإنسان بيتًا أو تِجارَةً أو شرِكَة أو يخْسر أحد أولادِهِ، إلا أنّ أكْبر خسارة على الإطلاق أن تخْسر نفْسَكَ التي خلقها الله لِجَنَّة الأبَد، قال تعالى:
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)﴾
الآيات الكَوْنِيَّة والتَّكْوينِيَّة والخُطب والآيات القرآنيَّة، وكتب ومُحاضرات وأفعال، كلّ هذا قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106)﴾
غلبتْهم شَهَواتهم، قال تعالى:
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)﴾
تجدهم يسْخرون من أهل الله تعالى، ويقولون لك: هذا لا يفْهم إلا العِبادة ! وهذا غبيّ !! قال تعالى:
﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)﴾
هناك آية ثانية تُكَمِّل هذه الآية وهي قوله تعالى:
﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾
هذه بِتِلك، وواحِدَة بِوَاحِدَة، والعبْرة لِمَن يضْحك آخرًا، والشَّقي من يضْحك أوَّلاً، لذا الإنسان لا يعبأ من كلام الناس، ولا بالقال والقيل لأنَّ الناس جميعًا لو مَدَحوك ولم يكن الله تعالى راضٍ عنك فلن ينفعُك مديحهم ولا رفْعهم لك.
قال تعالى:
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)﴾
هذا العُمْر الذي قضَيْتُموه في النزهات والفنادق وأكل الحرام، والحفلات المُشْتركة كم مِقدارهُ ؟! قال تعالى:
﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)﴾
أذْهبْنا آخرتنا مِن أجل يومٍ أو بعض يوم، فالكافر لا يعتقد يوم القيامة إلا أنَّ حياته لا تزيد إلا عن يومٍ أو بعض يوم، قال تعالى:
﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)﴾
لذلك الدنيا ساعة اِجْعلها طاعة، والنَّفْسُ طمَّاعة عَوِّدْها القناعة، والقبْر صُندوق العَمَل، قال تعالى:
﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)﴾
ثمَّ يقول الله تعالى:
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
دون هدف، ومن دون حِساب، وتأكل المال الحرام، وتعتدي على أعراض الناس دون حِساب، وتحتال عليهم من دون حساب، خُلقت للأكل والشُّرْب، قال تعالى:
﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾
جلَّ شأنهُ، وسبحانه وتعالى أن يخْلق الخَلْق عبثًا، قال تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ(16)﴾
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾
مِن شأن الإله الآخر أنَّ لا برهان له
﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) ﴾
قال تعالى:
﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾
اقرؤوا الواقعة قال تعالى:
﴿إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾
فالذي كان في الحضيض يمكن أن يكون في الأخير.